هذه قصة نبينا إبراهيم عليه السلام كما يصورها القرآن الكريم وكما وردت في الإنجيل لنرى الفرق بينهما فهي هنا للمقارنة ليس إلا ولنتعرف على الحبكة القوية التي نزل بها القرآن الكريم في أسلوب السرد للقصص والفارق بينه وبين الإنجيل
إبراهيم هو شخصية مهمة في الكتاب المقدس والقرآن الكريم، ويلعب الدور الرئيسي في حوار الأديان في أيامنا هذه. يفرد القرآن الكريم السورة رقم 14 لقصة إبراهيم، بينما نجد قصته في الكتاب المقدس من ضمن أحداث سفر التكوين، بالإضافة إلى ورود ذكره في أسفار أخرى. فهو يعتبر الجد الأكبر للعرب من جهة ابنه البكر إسماعيل، كما للإسرائيليين من جهة ابنه اسحق. ويعطي العهد الجديد تحديداً أكثر تجرداً للبنوة لإبراهيم، حيث لا تكون من ذرّيته وإنما بإيمان إبراهيم.
كلا الكتابين يسردان قصة إبراهيم وهو يصفّي حسابه مع الماضي وينطلق في طريق جديدة. يذكر الكتاب المقدس أنه ترك أباه وشعبه لكي فيما بعد يقطع عهداً مع الله يعده فيه بإعطاء أرض كنعان لنسله من بعده، شرط أن يسلكوا أمامه بلياقة. وتحكي القصة كيف أصبح الله الإله الواحد الصمد لذلك الشعب الواحد.
ويسرد القرآن الكريم قصة إبراهيم والله بطريقة أكثر تجرّداً. يتخلص إبراهيم من عبادة الأوثان، إذ رأى ما يعبده الآخرون - كالشمس والقمر - لا تشكّل أكثر من مجرد كونها أجزاء من الخليقة. وأن الله الخالق يعلو بما لا يقاس فوق المخلوقات. ومن هنا انطلقت عقيدة التوحيد، أو الإيمان بوجود إله واحد، كاعتراف عام عند الشعب الواحد، مقابل الشرك بالله عند الأجداد. وبموقفه هذا ضد الأوثان جلب إبراهيم غضب شعبه على رأسه، وأخذوا يضايقونه جداً.
يخبرنا القرآن الكريم أن شعب إبراهيم هاجموه وألقوا به في النار. ولكن الله أنقذه من أيدي الكامنين له بالشر، إذ حوّل النار برداً وسلاماً. وبعد ذلك ترك إبراهيم أباه وعشيرته وسار في طريق جديدة. ويحذّر الكتاب المقدس أيضاً من نصب وعبادة الأوثان، وهي وصية هامة يرد ذكرها بشكل واضح في سفري الخروج وتثنية الإشتراع في سياق قصة موسى (انظر الفصل العاشر).
يصف كلا الكتابين الأحداث الدرامية التي تدور حول ابني إبراهيم الاثنين. فيخبرنا الكتاب المقدس أنه بطلب من سارة، زوجة إبراهيم، يولد لإبراهيم ابنه البكر، إسماعيل، من أمَتها المصرية هاجر. وهذه القصة في الكتاب المقدس هي واحدة من قصص التحامل على الآخر والطرد والألم. لمرتين تُجبر هاجر على ترك خيمة إبراهيم والهرب إلى الصحراء. ولكن في المرّتين يمد الله وملاكه لها يد العون. وهكذا قبل أن يموت إسماعيل من العطش، تكتشف هاجر نبع ماء في الوقت المناسب.
الكلمات القليلة التي يذكرها القرآن الكريم بحقّ إسماعيل مملوءة إيجابية، فهو من جهة يدعوه نبياً من الأنبياء. يذكر القرآن الكريم قصة هاجر وإسماعيل بإيجاز، دون ذكر صريح لاسم هاجر. فمثلاً يُفهم من الآية 37 من سورة إبراهيم، بالاستناد إلى الأحاديث الشريفة، أن إبراهيم لم يُرسل هاجر وإسماعيل إلى الصحراء، كما يذكر الكتاب المقدس، وإنما أحضرهما إلى المكان الذي سيقيم فيه في ما بعد البيت الحرام، الكعبة، في مكة. وفي تلك البقعة الخربة والجافة ذهبت هاجر تبحث يائسة عن ماء لابنها، حيث راحت تركض جيئة وذهاباً سبع مرات بين جبلي الصفا والمروة. لا يذكر القرآن الكريم الاسم الصريح لهاجر، وإنما فقط الجبلين. وإكراماً لصبر هاجر، أصبح السعي بين الجبلين سبع مرّات جيئة وذهاباً أحد شعائر الحج إلى مكة، والذي على كل مسلم أن يقوم به لمرة واحدة في الحياة، إن استطاع إليه سبيلا. وهناك أيضاً يشرب الحجاج حتى اليوم من بئر "زمزم" الذي أنقذ هاجر وإسماعيل في النهاية من الموت ظمأً.
والقرآن الكريم يتكلم أيضاً عن إسحق بالحسنى. يسرد الكتاب المقدس، كما القرآن الكريم، بشكل موسّع قصة إعلان ميلاد إسحق عن طريق ثلاثة مُرسلين من قبل الله، وأعجوبة ولادته من أبوين طاعنين في السن.
القرآن الكريم يذكر أيضاً الحدث الدرامي الذي كاد يحدث عندما همّ إبراهيم بتقديم ابنه إسحق ذبيحة تقدمة لله، ولكن - حسب التقليد الإسلامي - إسماعيل هو الذبيحة. والحديث قبل شيء يدور حول الولد البكر. وهناك تظل اختلافات في القصة بين الكتابين. فبالمقارنة مع الكتاب المقدس، لا يتلقى إبراهيم في القرآن الكريم أمراً إلهياً بتقديم ابنه ذبيحة، وإنما يرى ذلك في رؤيا. ويصوّره القرآن الكريم أكثر انفتاحاً، ومتحدثاً مع ابنه حول الذبيحة، بينما نراه في الكتاب المقدس تاركاً ابنه إسحق في الظلام. ومن النقاط المميزة في القصة القرآنية استعداد ابنه إسماعيل للتعاون في تسهيل أمر الذبيحة.
في القصة لا يرد اسم إسماعيل الصريح، وإنما عند الحديث (مجدداً) عن بناء البيت الحرام، الكعبة، في مكة، مساعداً أباه في تهيئة ذلك البيت الحرام لتقديم الذبيحة، الأمر الذي لا يزال المسلمون يحتفلون به بعد فترة الحج إلى مكة.
في القرآن يلتقي الأخوان ثانية أثناء مراسم دفن أبيهما. وبعد موت إبراهيم، ينال إسحق بركة الله. وأخيراً يولد له ولد من زوجته رفقة، والذي يصبح فيما بعد أباً ليوسف (انظر الفصل التاسع). لا يورد القرآن الكريم قصة يعقوب والسلّم، وصراعه مع الملاك. ولهذا لن نتعرّض لها هنا.يتكلّم القرآن الكريم قليلاً جداً عن يعقوب الذي يعتبره، مع أبيه إسحق وجدّه إبراهيم، ذا شأن كبير. ومن المعتقد أن هؤلاء الثلاثة هم من وضع أساس الصلاة والزكاة، وأنهم كانوا على يقين تام بالمكافأة بالجنة لمن يعمل الصلاح (انظر الفصل التاسع عشر).
ربما يفتقد القارئ الكريم هنا ذلك المقطع من قصة إبراهيم، والذي يحكي عن دمار سدوم لاحقاً. فهذا القسم من القصة يرد في الفصل الثامن، تحت عنوان "قصة لوط"، ابن أخي إبراهيم.